الجزيرة- قناةٌ هزّت العالم وكشفتْ جرائمَ حربٍ بتضحياتٍ جسيمة.

في أسفاري المتعددة لحضور المؤتمرات والندوات، خاصة في البلدان غير العربية، لم يسبق لي النزول في فندق إلا وجدتُ قناتي الجزيرة، بنسختيها العربية والإنجليزية، تحتلان مكانة مرموقة في قائمة القنوات العالمية، جنباً إلى جنب مع القنوات الدولية العريقة التي يمتد تاريخها المهني لعقود طويلة، بل ويقارب المئة عام في بعض الأحيان، مثل هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) التي تأسست عام 1938 وشبكة NBC التي انطلقت عام 1926، وهما القناتان اللتان كانتا محط إعجاب العالم العربي ومصدر جاذبية له.
لقد أحدثت قناة الجزيرة، منذ إطلاقها في عام 1996، رجة عنيفة في المنطقة العربية، التي طالما اعتادت على الإعلام الموجه الخاضع لرقابة أمنية مشددة، والذي يعرض وجهة نظر واحدة قاصرة، ولم يحظَ بأي قدر من المصداقية لدى الجمهور العربي، بينما ظلت الـ BBC البريطانية، على مدى أكثر من ثمانين عاماً، المصدر الإخباري الوحيد الذي يحظى بالثقة.
في صميم الأحداث
في هذا السياق، أتذكر حواراً من مسرحية "ضيعة تشرين" السورية الشهيرة، حيث يقول البطل غوار الطوشة، الذي يجسده الفنان دريد لحام، لصاحب المقهى: "افتح إذاعة لندن كي نعرف ماذا يحدث عندنا"، في مشهد يعكس سخرية مريرة من وضع الإعلام العربي.
لقد استطاعت قناة الجزيرة أن تقلص بشكل كبير من الرصيد الجماهيري الذي كانت تحظى به المحطات الإخبارية العالمية، وأصبحت وجهة رئيسية للباحثين عن مصادر موثوقة لتلقي الأخبار من مختلف أنحاء العالم، عربياً ودولياً، وتجاوزت بموضوعيتها الملحوظة المكانة التقليدية الراسخة لتلك المحطات.
حظيت قناة الجزيرة باهتمام عالمي غير مسبوق، وذلك عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، عندما قدمت سبقاً صحفياً بالغ الأهمية، وربما كان الأكثر جرأة على الإطلاق، حين بثت تسجيلات مصورة لأسامة بن لادن وسليمان أبو غيث يتحدثان فيها عن الهجمات من وجهة نظر تنظيم القاعدة، الأمر الذي أثار جدلاً واسعاً، ووجهت إليها اتهامات من واشنطن بأنها تحولت إلى "منصة إعلامية" تخدم مصالح الإرهابيين، إلا أن الجزيرة دافعت بشراسة عن مهنيتها، وسارت على خطاها لاحقاً العديد من القنوات التلفزيونية الغربية التي قامت ببث أجزاء من تلك التسجيلات مع وضع شعار قناة الجزيرة عليها.
اكتسبت المحطة شهرة عالمية أوسع عندما كانت القناة الوحيدة التي غطت الحرب في أفغانستان على الهواء مباشرة من مكتبها هناك عام 2001، ونقلت للعالم صور الدمار والفظائع التي ارتكبها الجيش الأمريكي بحق الشعب الأفغاني الفقير الذي يعاني الأمرين لتوفير لقمة العيش، الأمر الذي دفع بالجيش الأمريكي إلى قصف مكتب القناة في كابل بالصواريخ في الثالث عشر من نوفمبر عام 2001، في محاولة لإخماد شعلة النور الوحيدة، "الجزيرة"، في أفغانستان!
وفي الثامن من أبريل عام 2003، عشية دخول بغداد، اتخذت واشنطن قراراً بإسكات صوت الجزيرة ومنعها من نقل الممارسات الوحشية لجيشها، فقصف صاروخ أمريكي مكتب الجزيرة في بغداد، وأدى إلى استشهاد مراسلها طارق أيوب وإصابة آخر.
مخطط لاستهداف الجزيرة
في الرابع والعشرين من نوفمبر عام 2004، نشرت صحيفة "ديلي ميرور" البريطانية وثيقة اطلع عليها النائب العمالي البريطاني السابق توني كلارك، تضمنت معلومات تؤكد أن الرئيس الأمريكي آنذاك، جورج بوش، قد أطلع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، خلال زيارته للبيت الأبيض في أبريل عام 2003، على خطة لضرب مقر قناة الجزيرة وبعض مكاتبها في الخارج. وذكرت "ديلي ميرور" أن بلير حذر بوش من أن الإقدام على مثل هذا العمل قد يثير موجة غضب عالمية عارمة.
وعلى الرغم من أن الصحيفة نسبت إلى مصدر حكومي قوله إن تهديد بوش كان من باب المزاح، إلا أنها نقلت عن مصدر آخر قوله إن الرئيس الأمريكي كان جاداً بالفعل، وأن بلير كان جاداً أيضاً في تحذيره، مؤكداً أن ذلك يتضح من طبيعة العبارات التي استخدمها كلا الرجلين.
ونقلت "ديلي ميرور" عن المسؤول السابق بوزارة الدفاع البريطانية بيتر كيلفويل مطالبته لرئاسة الوزراء بنشر الوثيقة التي تتضمن تفاصيل ما دار بين الرجلين في تلك المباحثات، قائلاً: "إنه لمن المروع أن يقترح رجل يتمتع بسلطة ونفوذ بوش مثل هذا العمل المتغطرس".
تأصلت مكانة قناة الجزيرة في صميم الرأي العام العربي، وذلك بفضل تغطيتها الإخبارية الاحترافية والمتميزة، لحظة بلحظة، للثورات العربية التي عرفت بـ "الربيع العربي".
لا نبالغ إذا قلنا إن العالم قبل بزوغ نجم قناة الجزيرة في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، يختلف تماماً عن العالم بعدها، فما من بقعة ملتهبة على وجه الأرض، بما في ذلك المناطق التي تمثل خطراً داهماً على سلامة الصحفيين وحياتهم، إلا وتجد قناة الجزيرة في قلب الحدث، بل وفي مقدمة القنوات الأخرى، تنقل التفاصيل على الهواء مباشرة، وتحظى بأعلى نسب المشاهدة والمتابعة مقارنة بالقنوات الدولية العريقة التي تمتلك تاريخاً طويلاً ونفوذاً واسعاً.
إصرار مُسبق
لقد بلغت الرسالة الإعلامية التي تقدمها الجزيرة حداً مؤثراً في صناع القرار السياسي وفي القنوات والجهات التي تصدر القرارات السيادية الكبرى على المستويين الإقليمي والعالمي، مما وفر مظلة حماية قوية للمقهورين والمستضعفين في العالم، ودفعت في سبيل ذلك ثمناً باهظاً نظير دورها الأخلاقي ورسالتها السامية، إذ ظلت تمثل صمام أمان يجهض محاولات الاستفراد بـ "العالم المستضعف" من قبل القوى المتوحشة المهيمنة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً، الأمر الذي دفع بالعواصم، بما فيها تلك التي تدعي الديمقراطية، إلى ملاحقتها بلا هوادة، بل والتخلص من مراسليها بأبشع الطرق، كما رأينا في أفغانستان والعراق، ومؤخراً في إسرائيل:
في الحادي عشر من مايو عام 2022، اغتيلت الصحفية شيرين أبو عاقلة أثناء تغطيتها للأحداث في مدينة جنين الفلسطينية. وفي الخامس عشر من ديسمبر عام 2023، اغتيل المصور سامر أبو دقة، وأصيب الصحفي وائل الدحدوح بجروح خطيرة. كما استشهد خمسة من أفراد عائلة الدحدوح، بمن فيهم زوجته وأولاده وأحفاده، ونجله الأكبر حمزة، الذي كان يعمل صحفياً في قناة الجزيرة، بالإضافة إلى زميله في القناة مصطفى ثريا.
لا يسع أي مراقب محايد، أو حتى من كان له موقف مسبق من القناة، إلا أن يعترف بأن قناة الجزيرة هي القناة الدولية الوحيدة التي نقلت للعالم أجمع، بمهنية عالية وتضحيات جسيمة غير مسبوقة، العدوان الوحشي على قطاع غزة، وهي صاحبة الفضل في إشعال نار الغضب والاحتجاجات في أوساط الرأي العام الغربي ضد حرب الإبادة، وفككت بمفردها الرواية الإسرائيلية المدعومة بمؤسسات القوة في الغرب والتواطؤ الجماعي للإعلام الغربي مع المذابح، وحملته على التخفيف من حدة عدائه تجاه فلسطين.
وهي القناة التي ساهمت في تشكيل الحراك الطلابي الداعم للقضية الفلسطينية في الجامعات الأمريكية والعواصم الأوروبية، وصححت صورة "الإسلام النضالي" في جميع أنحاء العالم، ولا يسعنا إلا أن نقر بأنها هي التي قادت تل أبيب إلى ساحات القضاء الدولي وأدرجتها، ولأول مرة منذ تأسيسها، في قائمة "الدول المارقة".
كان من المتوقع ألا تتحمل إسرائيل هذا "الإزعاج" الذي تسببت لها به قناة الجزيرة في مختلف أنحاء العالم، وكان هناك إصرار على معاقبتها، ولم يتم تأجيل القرار إلا لأن الفاتورة البشرية كان قد سددها الشعب الفلسطيني بالفعل، ولم يعد لدى نتنياهو ما يخفيه من جرائم، ولم يبق لديه إلا مذبحة واحدة، "اجتياح رفح"، فجاء قراره بإغلاق قناة الجزيرة لإخماد آخر أعمدة النور والانفراد برفح بعيداً عن أعين العالم.